ترامب رئيساً- أميركا تنكفئ، أوروبا تتأزم، والصراع ينتقل لآسيا؟

تشير دلائل عديدة إلى إمكانية فوز دونالد ترامب بمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في الانتخابات الرئاسية الراهنة. لكن السؤال الأهم الذي يفرض نفسه يتعلق بالتبعات المحتملة لهذا الفوز، خاصة وأن ترامب يرى في نفسه شخصًا فائق الذكاء والعبقرية، ويعتقد أن الرئاسة سُلبت منه في الماضي ظلماً.
يمتلك ترامب قناعة راسخة بأن عالم السياسة أشبه بحلبة ملاكمة عنيفة، حيث يكون المرء عرضة لضربات قوية قد تطيح به خارج المنافسة. وقد تجلى هذا المفهوم بوضوح في طريقة تعامله مع مساعديه خلال فترة رئاسته الأولى، والتي شهدت إقالة بعضهم عبر تغريدات مفاجئة.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsترامب يوقع أمرا تنفيذيا لإلغاء وزارة التعليم
"مبعوث يسوع".. هل سيُدخل ترامب أميركا عصر الهيمنة المسيحية؟
من المتوقع أن يتأثر ترامب بتوجهين متناقضين: الأول يمثله التيار المؤسسي التقليدي في أمريكا، الذي يضم شخصيات ذات خبرة طويلة في العمل السياسي داخل أروقة الدولة والكونغرس. أما التوجه الثاني فهو شعبوي متطرف، يعزز من نزعات ترامب العنصرية وقراراته المتشددة تجاه المهاجرين والهجرة. إضافة إلى ذلك، فإن فوزه المحتمل سيعزز لديه الاعتقاد بقوة الصورة الإعلامية وقدرتها على التأثير في الجماهير، إذ أن نجاحه السابق استند بشكل كبير على قدرته في مخاطبة مشاعر الناس واستثارة عواطفهم.
يحظى ترامب بدعم قاعدة جماهيرية عريضة تتسم بالعنصرية والتعصب، بالإضافة إلى فئة المحافظين المتشددين الذين يعارضون المثلية الجنسية والإجهاض. وهو يدرك تمام الإدراك أن تبني المزيد من المواقف المحافظة والعنصرية سيضمن له الحفاظ على هذا الدعم الشعبي. وفي المقابل، قد يؤدي ذلك إلى تفاقم المشاكل العرقية والإثنية في المجتمع الأمريكي، مما قد يفجر موجات من العنف يصعب التكهن بمدى اتساع نطاقها، وإن كانت لن تصل إلى حد الحرب الأهلية.
سيسعى ترامب إلى عزل أمريكا عن العالم والتركيز على الشؤون الداخلية، مع إعطاء الأولوية المطلقة للمصالح الأمريكية، حتى لو تطلب ذلك تجاهل مشاكل الشركاء والحلفاء. فالعقلية التجارية التي تسيطر عليه، والقائمة على تحقيق أقصى قدر من الأرباح والمكاسب دون التقيّد بأي اعتبارات أخلاقية، ستدفعه إلى اتخاذ قرارات قد تبدو أنانية وغير مسؤولة.
نتيجة لذلك، من المتوقع أن تشهد العلاقات بين أوروبا وأمريكا فترة من التوتر والاضطراب، قد تصل إلى حد تهديد مكانة أولاف شولتس في قيادة ألمانيا، والذي رهن مصالح بلاده بالتحالف مع الولايات المتحدة ضد روسيا.
سيكون وقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا نتيجة طبيعية لهذا التوجه، فالناخب الأمريكي يشعر بأنه يدفع الضرائب لتمويل حرب لا يعتبرها ضرورية أو ذات أهمية بالنسبة له. كما أنه يرى أن تكاليف الوجود الأمريكي في حلف الناتو لحماية أوروبا باهظة للغاية، ويجب على الأوروبيين تحمل جزء أكبر منها.
لكن الحقيقة التي قد يغفل عنها الكثيرون هي أن فوز ترامب المحتمل يمثل بداية تفكك تدريجي للعلاقات الأمريكية الأوروبية المتينة، والتي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية على أساس تقاطعات وتشابكات معقدة. لن يسمح الأوروبيون لأنفسهم بأن يكونوا رهنًا للتغيرات المفاجئة في السياسات الأمريكية. ففي الوقت الذي تتجه فيه أمريكا إلى أن تصبح دولة من الدرجة الأولى تهتم بشؤونها الداخلية فقط، بدلًا من أن تكون الدولة القائدة والحامية للعالم، كنتيجة للحرب العالمية الثانية. فهل نشهد نهاية هذه الحقبة بالفعل؟
إذا فاز ترامب، فمن المؤكد أنه سيسعى إلى فرض المزيد من القيود والعراقيل أمام الصين، التي تهدد مكانة أمريكا كقوة اقتصادية عظمى مهيمنة على العالم. وواقع الأمر أن ترامب يمثل بالنسبة للصين رئيسًا سيعجل بإعلان الصراع الصيني الأمريكي بصورة واضحة وصريحة، بدلًا من إبقائه في الخفاء.
لذلك، من المرجح أن ينتقل مركز الصراع من أوروبا (حلف الأطلسي – روسيا) إلى آسيا (أمريكا – الصين)، ليتحول إلى حرب اقتصادية وسياسية شاملة. قد يدفع هذا الصين إلى بناء تحالفات دولية جديدة تحدث شرخًا في النظام العالمي القائم. إلا إذا قرر ترامب، كرجل أعمال مغامر، أن يتجنب تلقي ضربة قاضية من الصين، أو توجيه ضربة قاضية مماثلة لها، فيتوجه لزيارتها في خطوة مفاجئة لخلق حالة من الارتباك والغموض لدى المراقبين والمحللين. إنه أسلوب قد يلجأ إليه لقلب الطاولة على الجميع ومفاجأة العالم.
ينظر ترامب إلى المنطقة العربية من منظور اقتصادي بحت، ويركز بشكل خاص على منطقة الخليج العربي لما تمثله من ثقل اقتصادي كبير. وهذا ما سيجعله يسعى إلى إعادة بناء الشراكة مع دول هذه المنطقة. كما أنه سيحاول العودة إلى سياسة تحجيم وتقويض النفوذ الإيراني، بعد أن تنفست طهران الصعداء في عهد بايدن. وسيحمل رؤية جديدة بشأن القضية الفلسطينية، تقوم على إقناع الفلسطينيين بالقبول بالحد الأدنى من الحقوق الممكنة. وبالتالي، فإن إصرار نتنياهو على إطالة أمد الحرب ضد الفلسطينيين وانتظار فوز ترامب يعكسان اعتقاده بأن ترامب سيكون أكثر تحيزًا لإسرائيل.
لكن الحقيقة المؤلمة هي أن الولايات المتحدة تواجه حالة من العداء الغير مسبوق في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تنامي الغضب في أوساط المسلمين الأمريكيين تجاه الحرب، وكذلك تزايد أعداد طلاب الجامعات الأمريكية الذين يعارضون الحرب ويدعمون القضية الفلسطينية.
هذان العاملان الداخليان سيكون لهما تأثير كبير على سياسات ترامب تجاه القضية الفلسطينية، خاصة مع وجود عدد من المسلمين الذين سيشاركون في إدارته، والتخوف من ردود الأفعال الغاضبة التي قد تضر بالمصالح الأمريكية في حال استمرار الحرب ضد الفلسطينيين.
لذلك، من المرجح أن يسعى ترامب إلى وقف الحرب والبحث عن حل يرضي جميع الأطراف، ويحفظ له مظهره كزعيم يحترم رغبات العرب والمسلمين، وفي الوقت نفسه يظل منحازًا لإسرائيل. سيعتمد على لغة الحوار الهادئ بدلًا من لغة التهديد والوعيد، وسيتخذ موقفًا حاسمًا سيحترمه الإسرائيليون؛ خشية فقدان الدعم الأمريكي الذي يمثل أهم حليف استراتيجي لهم.
الحقيقة الأخيرة التي يجب أن ندركها، سواء فاز ترامب أو كامالا هاريس، هي أن الولايات المتحدة ستشهد في السنوات القادمة تراجعًا في نفوذها على الساحة الدولية لصالح الصين والهند، اللتين تسعيان حاليًا إلى تعزيز تحالفهما بعد تسوية مشكلة الحدود المشتركة. هذا التحالف الهندي الصيني قد يشكل قوة عالمية جديدة تقود عالمًا متعدد الأقطاب.
يبقى السؤال المطروح: كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع هذا الاستقطاب الجديد، في ظل تفاقم المشاكل الداخلية التي تعاني منها، بدءًا من الديون المتراكمة وصولًا إلى الرأسمالية المتوحشة والعنصرية المتفشية، وفقدان الأمريكيين لشعورهم بالرفاهية والرخاء؟
كل هذه التحديات تتطلب من ترامب أن يفكر بطريقة غير تقليدية وأن يخرج عن المألوف. فالجمود الذي أصاب المؤسسة الحاكمة في أمريكا، التي تضم الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي وأجهزة الدولة المختلفة، قد أدى إلى ضعف الإدارة الأمريكية، ووجود قصور واضح في إفراز قيادات سياسية تتمتع بالكفاءة والقدرة على مواجهة التحديات. وهو ما حذر منه هنري كيسنجر في كتابه "القيادة" الذي صدر قبل وفاته.
فلا ترامب ولا هاريس يبدوان قادرين على حل المشاكل المعقدة التي تواجه الولايات المتحدة، ولا يمتلكان الرؤية السياسية الثاقبة التي تمكن أمريكا من الخروج من أزمتها الحالية. فالولايات المتحدة تقف الآن على مفترق طرق، بين أن تظل الدولة العظمى القائدة للعالم، أو أن تتحول إلى دولة من الدرجة الأولى تركز على مصالحها الداخلية فقط. هذا الوضع ينذر ببداية حقبة جديدة في تاريخ العالم.